عاجل
الثلاثاء 15 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
البنك الاهلي
"الولد الشقي" ضاع في ضباب لندن!   (1/2)

الغربة الثانية 27

"الولد الشقي" ضاع في ضباب لندن!   (1/2)

ما تكاد نظارته الطبية تستقر على أرنبة أنفه, حتى يرفعها بحركة عصبية, ويرميها فوق الورق أمامه, ثم يضغط على القلم بأصابعه, ويضع سِنَّهُ على ورقة صغيرة, يكتب.



فلقد كان سليم اللوزي ممن يقيد الشوارد, ولا يدعها تفلت منه, فإن هبّت عليه فكرة, إغتنمها, وأسرع في قيدها لئلا تضيع. فكانت جيوب سترته مليئة دائماً بأرواق يسجل فيها خاطرة راودته, أو فكرة طرقت بابه. صهلل صوته وهو يُعرّفني على ريمون عطالله, مدير تحرير "الحوادث", وأنطوان شكرالله حيدر, سكرتير التحرير التنفيذي فيها.

وكان سبق لي أن إلتقيت ريمون عطالله في مكاتب "جريدة الصفاء" في بيروت, التي كان يصدرها ويترأس تحريرها رشدي المعلوف (والد أمين المعلوف الكاتب اللبناني وعضو الأكاديمية الفرنسيةL’académie Française ), و كاتب "مختصر مفيد" وهو العمود الذي كان يُسقط حكومات, ويهز زعامات.

أما أنطوان شكرالله حيدر, فقد كنت رسمت له صورة من خلال كتاباته, فجاءت متطابقة مع الأصل والواقع, عصبي المزاج, كثير الحركة, بارع في الكلام, ومقنع في الكتابة. وكان الإثنان عندي يشكلان "النقيض الناجح", واحد هادئ, ناضج, جلود, مجرب, صبور, فنان, لا أحد يُلزه في موهبته في إدارة مطبوعة على وزن وأهمية "الحوادث", والثاني, لمَّاح, لمَّاع, سريع الأنفعال, يعمل ساعات طويلة بلا كلل ولا ملل.

توقف عينا سليم اللوزي عليَّ, وفيهما دعوة واضحة:

" علاقتك ستكون مع الأستاذين عطالله وحيدر".

إلتقط نظارته, وضعها في جيبه, تهلل صوته وهو يلملم شتيت الأوراق:

"عند ريمون, يبدأ وينتهي كل شيء... ما يقرره ريمون يمشي". إدار ظهره و... مشى.

وما قرره ريمون عطالله, كنت أفكر فيه, وتلاقينا على ترتيب مواعيد إرسال المواد التحريرية لتنضيدها وتصحيحها, وإعادتها جاهزة الى القسم الفني الذي كان يتولاه صابر كامل, تلميذ عصمت الشنبور المتميز,  لتعاد الصفحات المصممة إليَّ لتصويرها, وتحضير الأفلام والمونتاج المقسم الى ملازم, ثم إرسالها الى مطبعة "جارود أند لوفتهاوس" في منطقة "كرولي", وكانت من أهم وأكبر مطابع هاتيك الأيام في بريطانيا.

كانت مكاتب "الحوادث" في "3 هارينجتون جاردنز "  3 Harington Gardens , والمبنى (تحول اليوم الى شقق مخدومة) كان يملكه الثري اللبناني جورج زاخم, فقدمه لسليم اللوزي من دون بدل إيجار, فبين الاثنين قامت صداقة وود ورفع كلفة. بينما بقيت شقيقتها الإنجليزية   The Eventsفي مكاتبها في "ساوث هامبتون رو", حتى توقفت عن الصدور.

بدأ التحضير للعدد , ولم يكن جهاز مكاتب لندن فد إكتمل بعد,  فقد إقتصر على ريمون عطالله هو وأنطوان شكرالله حيدر, وصابر كامل, وجلال كشك , ومحمد سعيد الجنيدي فقط... وبعد أسابيع من صدور العدد, وصل سليم نصار, ونشأت التغلبي, ومحمد عبد المولى... 

كانت المواد تأتي من مكتب بيروت الذي كان يديره وليد عوض, وهي مواد سياسية لبنانية, وثقافية, وفنية, واقتصادية, ومن مصر نشأت التغلبي وفوميل لبيب, ومن باريس أنطوان فرنسيس وحسن حمادة وليندا نجيم وجوزف سعادة... 

كان ريمون عطالله وأنطوان شكرالله حيدر أول من يصل المكاتب في الساعة السابعة صباحاً, وينضم إليهما صابر كامل, وجلال كشك, وسليم اللوزي.  وبعد الظهر بهيج عنداري, الذي كان يخط العناوين الفرعية بخط فارسي.

ولا يغادر الثلاثي, عطالله و حيدر وكامل المكاتب إلا بعد منتصف الليل.

كانت المواد المُراجَعة والمنقحة والمعنونة ترسل الى مكاتبنا في مبنى "مورلي هاوس" في "ريجنت ستريت" بوساطة, "أديسون لي" Adison Lee  وهي  شركة "ميني كاب" معروفة, وأعيد تلك المادة بعد تنضيدها وتصحيحها بالوسيلة نفسها, لتعود الصفحات المصممة ترسل إلى "ريجنت ستريت" بوساطة تلك السيارات. 

وكثيراً ما كانت تلك السيارات, في رحلتها المكوكية بين مكاتب "الحوادث" ومكاتبي, تتعرض للازدحام وعجقة السير, فتصلني المادة التحريرية متأخرة, وتبعاً لذلك, يتأخر التنضيد والتصحيح, والإرسال من جديد الى مكاتب "الحوادث". والوقت المهدور في شوارع لندن بسبب الإنتظار كان يقتات من أعصابنا في "ريجنت ستريت", ويوّتر الأستاذ حيدر في "هارينجتون جاردنز ". وما كان يزيد الطين بلة تغيير المواد, وإلغاء بعضها بناء على طلب الأستاذ سليم. وفي أحايين كثيرة, يتصل بي الأستاذ حيدر, ويوقف ملزمة كاملة لإعادة صياغة خبر, أو إضافة آخر, فنتلف الأفلام, ونعيد التصوير من جديد.

كان صدور العدد مؤلماً, مثل المخاض, ولم تكن الولادة سهلة: 

سليم اللوزي اشتد به الخوف من فشل تجربة إصدار "الحوادث" في لندن, بكل ابعادها, وأهمها القلق على توزيع النسخ, ووصولها حسب المواعيد الأسبوعية للمجلة الى العالم العربي.

وأنا كنت مشدود الأعصاب, أرغب في إتمام العمل كما يجب, ومن دون تأخير عن مواعيد المطبعة, على الرغم من كل المنغصات التي إعترضتنا.

لقد كنت أنتج وأجهز في محترفي الصغير مجلة عملاقة, قامة صحفية لها الحول والطول, والسمعة والمنعة, هدّارة, تهتز لها قامات وزعامات. مجلة أدخلت على الصحافة العربية ما صار يسمى, معها وبعدها, Pan Arab.

كنت أريد أن أنجح, وأن يترافق إسم مؤسستي الصغيرة مع إسم المجلة الكبيرة, أن يلهج الناس بإسم مؤسستي, وأن يعرف الكل ما نستطيع تقديمه, وحسبي قول سيمون سينك Simon Oliver Sinek :" سمعتنا لا تأتي من الطريقة التي نتحدث بها عن أنفسنا. سمعتنا تأتي من الطريقة التي يتحدث بها الآخرون عنا".

 وهكذا كان.

سهرنا الليل بطوله, أنا في "مورلي هاوس", وسليم اللوزي وجهازه في "هارينجتون جاردنز", نعد الساعات, نراقب العقارب وهي تمشي ببطء على الوقت.

و... اتصل بي من المطبعة من أبلغني بانتهاء الطبع, وأن نسخاً في الطريق من "كرولي" إلى لندن.

وتركت مكتبي في "ريجنت ستريت" إلى "هارينغتون غاردنز", انتظر مع المنتظرين.

كانت الساعة جاوزت السادسة صباحاً عندما وصلت النسخ.

فرَّ سليم اللوزي الصفحات على مهل حتى الغلاف الخلفي,  دارت عيناه في عيون الملتفين حوله, وجدت خيطاً من الفرح غائراً في عينيه.

"مبروك علينا كلنا...".

غَصَّ في الكلام. رفع ياقة معطفه, وترك المكتب.

كان الغلاف عن المشير عبد الغني الجمسي.

"هنيالك يا عم... طبعاً يا سيدي, إللي بيشتغل بحوادث لسليم اللوزي, لازم ينسى الناس"!

سقط صوته على أذني, طنيناً ناعماً, فرحاً, أليفاً ومحبباً,  تجمع كل استغرابي في نبرات صوتي:

"محمود... إنت فين؟!".

"ضايع في ضباب مدينة الضباب, هو مش بيسموها كده؟!"

وفرقعت ضحكة, كادت تنشق لها حنجرته.

ومحمود السعدني يعرف "مدينة الضباب", ويحفظ شوارعها, وعناوين عيادات الأطباء والمستشفيات فيها, فقد جاءها في ستينات القرن الماضي, حاملاً طفلته هالة التي كانت لم تتجاوز بعد الخامسة من سنيّها, لإجراء جراجة لم تكن ممكنة في القاهرة, في ذياك الزمن.

فلا العلاج في الداخل كان متوفراً, ولا المال للعلاج في الخارج أيضاً، فكان أن بقيت أسيرة السرير في المستشفى, حتى تمكن من جمع المبلغ الذي كان "يهد حيل" الميسور,  فكيف بحيل صحفي "بلد تشيله وبلد تحطه". 

وصرخ قلم محمد السعدني من الوجع, وحبره كان قطرات من دم قلبه الملتاع, الموجع على ابنته:

"العبد لله, (كتب بوجع) قرر عام 1961 أن يعالج هالة, حتى تشفى بأمر ربي, ولو أدى  الأمر إلى بيع ملابسي في سوق الجمعة, لأنني أشعر بعقدة ذنب, لأنها مرضت وأنا في "سجن الواحات" عام 1959".

وعاند محمود السعدني, وكاسر, تأخذه الحدة أحياناً, كما يعلم من دخل في عشرته, شعر بخيبة المسعى, ولكنه لم يشعر لحظة واحدة بخيبة الأمل, فتغلب على كل الظروف, وتكررت زياراته إلى مستشفيات لندن, وعيادات الأخصائيين في "هارلي ستريت", شارع الطب والطبابة في مدينة الضباب, وخارجه.

والعملية الجراحية  بعد الأخرى, والمبضع نزل على اللحم الحي عشرين مرة, والنفقات المرتفعة تحمّلها كلها الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان, بطيبة خاطر وكرم محتد, حتى قيض الله الشفاء.

لم يكن لمحمود السعدني ولع إلا بالكتابة, يفكر فيها, قاعداً, قائماً, حاضراً, بادياً، سائراً, سارياً، وفيها كان ثائراً من كل شيء وعلى كل شيء, غير هيّاب, جريئاً إلي حد التهور, فالجرأة كانت عنده من لزوم الأدب الساخر, وهو صنو المازني من أعلامه.

رافقني في بداياتي في مجلة "صباح الخير", فكنت كل يوم أحد انتظر في مكتبي أن يهلّ عليَّ بزاويته الأسبوعية "هذا الرجل", التي كانت على عمود عرضه "16 كور", بقياس وتنضيد "تيبوغراف" (عمود 8 سنتيمترات بمقاسات هذه الأيام), ولا تتعدى العشرين سطراً, يتناول في تلك الأسطر شخصية سياسية, أو فكرية, أو فنية, أو رياضية, ينتقد حيناً, ويمدح أحياناً... ويا سعد من يمر عليه سن قلم محمود السعدني, فهو يذهب سمعه في الناس.

وكان السعدني يكتب زاويته في اللحظات الأخيرة لمثول المجلة للطبع, فالفكرة تدور في رأسه, يبدأ بإلباسها حلل الكلمات, حتى تكتمل زينتها في ذهنه, فينزلها على الورق, فيسبح قلمه بخفة وسرعة, يرسم الكلام بخط كبير, على أسطر متباعدة, لا يستطيع قراءته إلاَّ من فَتَحَ اللهُ لهم, وباتوا على خبرة ودراية "بخط السعدني" الذي ذهب مثلاً في "صباح الخير".

ولا أعرف فيمن سبقونا إلى الصحافة, ولا في من أتوا إليها بعدنا, كاتباً مثل محمود السعدني, ترجح كفة إجاداته وممتعاته ولطائفه في مقامات الرأي, وتشيل كفة موهبته في رئاسة وإدارة تحرير جرائد ومجلات تنقّل بينها في مصر والعالم العربي, فلم يستقر على حال ومآل.

ولا أعرف كاتباً يسحبك إليه, ويأسرك, فلا تستطيع التفّلت منه, فتستسلم له بكليتك, وتدعه ينشيك في روعة الألفاظ والتراكيب, يستلّ منها ما يريد وكما يريد وساعة يريد, كل ذلك في سخرية بارعة, وأسلوب طَلِق, وفي دقة المعاني التي تختفي خلف كل حرف ملزوز بجاره, ليرتب بالأحرف مقاصد الأشياء, ويضعها في موضعها الصحيح.

سبح قلم محمود السعدني في جميع أنواع فنون الكتابة, من صحافة, إلى سياسة, إلى أدب الرواية, وأدب الرحلات.. وكانت إبداعاته وممتعاته لا إعنات في معانيها ولا تكلف, وأسلوب خال من الحشو الممل الممجوج, وهو عندي أسلوب وحيد أبويه.

كل شيء بدأ في "قهوة محمد عبدالله" في "ميدان الجيزة",  التي كانت في الصباح ملتقى تجار القطن ورجال الأعمال, إضافة إلى الذين يلهثون وراء القضاء, ويرفعون إليه الشكاوى والدعاوى. 

وفي المساء يتحول, بقدرة قادر, إلى منتدى ثقافي, رواده جماعة القلم والحبر والورق والفكر, في السياسة, والأدب, والشعر, والفنون.

كان محمود السعدني لا يفوّت ليلة, فيجلس مستمعاً إلى زكريا الحجاوي, وأحمد الصاوي محمد, ونعمان عاشور, وأنور المعداوي, وعبد القادر القط, وعبد الحميد قطايش.. يسمع, يبروز في ذهنه الكلام الذي يسمعه, يتدخل في الحديث, يجادل, ينافح, يناقش, يُصَحَّح له, ويُصَحِّحُ لغيره. 

كان من رواد "قهوة عبد الله", شاب طري العود, تلميذ, كان, في كلية الآداب, كان يقرأ على الحاضرين نتفاً من شعره, وكان يسمع لنقد الحجاوي, ومداخلات المعداوي, والشاب طري العود كان نزار قباني, وجاره في الجلسة  والشعر كان صلاح عبد الصبور, والشاب سمير سرحان, الذي  قرأت جماعة" قهوة عبد الله" أولى قصصه القصيرة. وكان صلاح جاهين لا يتخلف عن  سهر وسمر الجماعة, يزين الجلسة، التي كانت تطول وتغمز للفجر, بزجلياته. وفي"قهوة عبد الله", يخبر محمود السعدني, طلعت "رباعيات صلاح جاهين". أما أحمد عبد المعطي حجازي, فراح يتحرر من أسر القوافي, ويطلق شعره النثري العالي المنازل, يجاريه الشاعر الفلسطيني معين بسيسو, الذي توثقت صداقته بمحمود السعدني, واستمرت حتى ممات الشاعر الفلسطيني وهو لما يزل في أوج عطائه.

وكان لمحمود السعدني مناقشات سُمعت له مع رجاء النقاش, الناقد المُهاب, وكان يرتاد القهوة كلما سنح له الزمن والظرف والحال, حول الأدب الساخر. وقد استذكر رجاء النقاش هذه المناقشات والمساجلات في إحدي مقالاته التي كانت تنشرها له مجلة "الوطن العربي", السعيدة الذكر.

في "نداء الوطن", جريدة ناظر "المدرسة العلمية الثانوية", التي كان يجلس محمود السعدني على مقاعدها, بدأ ولعه في الكتابة ومهنة الصحافة. افتتن بالنقد الساخر, فراح ينميه في كتاباته حتى أجاده، وإضافة إلى المقالات, كان يعيد صياغة مقالات زملائه, ويوضب الجريدة ويرافقها إلى المطبعة, كل ذلك نظير إعفائه من أقساط المدرسة, فيومها, لم يكن التعليم في مصر "مجاناً". بعدها لم يسقط القلم من أصابعه, إندار يكتب في الجرائد والمجلات الضئيلة التوزيع والانتشار, التي كانت تصدر في شارع "محمد علي".

وعلت به السن, ونمت فيه الكتابة, ونضج أسلوبه في مقالات لم ينسجها على منوال أحد, فكانت دُرّة المقالات الساخرة, اللاذعة, "دبابيس" تخزّ ولا تدمي, توجع مع ابتسامة.

ويجنح في السياسة صوب "الوفد", ينادي بمبادئه, ويكتب في "المصري", وكان يومئذ بوق "الوفد" وطبله وزمره.

و... سمعت القاهرة هدير الدبابات في 23 من يوليو (تموز) 1952 وطلع صوت أنور السادات من الإذاعة, يعلن أن الملك نزل عن العرش, و"المملكة" صارت "جمهورية".

وتبدل وجه "المحروسة", وتغيرت الحياة, وما أن بدأ أيام سنة 1964 تكرج على خد الزمن, حتى كان السعدني من غلاة أتباع الناصرية.

وبعد مجلة "التحرير" التي ترأس تحريرها أحمد حمروش، كانت "جريدة الجمهورية", التي تولى أنور السادات رئاسة مجلس إدارتها, وهو الذي انتقى من بين الأسماء التي طُرحت عليه اسم كامل الشناوي, ليتسلم رئاسة التحرير. فراح, بعدما استمكن واستتب له الأمر, يجمع لها خيرة الكتاب والصحفيين.

و كان السعدني واحداً منهم..

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز